
هل تتم خصخصة القطاع العام وتخرج الحكومة من اللعبة الاقتصادية في سوريا؟

منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، تكبّد الاقتصاد السوري خسائر جسيمة طالت مختلف قطاعاته، ما أدى إلى تدمير البنية التحتية، وتعطيل الإنتاج الصناعي والزراعي، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات قياسية. ومع استمرار التدهور، أصبح البحث عن حلول جذرية ضرورة لا ترفًا، وبرزت الخصخصة كخيار مطروح لإعادة تنشيط الاقتصاد والخروج من حالة الشلل المزمن.
دعوات إلى انسحاب الدولة من الاقتصاد
في ظل هذا التدهور، بدأ الحديث يعلو حول ضرورة تغيير النموذج الاقتصادي، بل والانسحاب الكامل للدولة من النشاط الإنتاجي. "مازن ديروان"، المستشار الأول لوزير الاقتصاد في الحكومة المؤقتة، وصف القطاع العام بأنه عبء على الدولة يستنزف الخزينة ويكرّس الفساد والولاء على حساب الكفاءة. واقترح في منشور علني "بيع القطاع العام برمّته"، مؤكداً أن الفكر القائل بأن الدولة يجب أن تنتج، هو فكر تجاوزه الزمن، وأن الدور الطبيعي للحكومة يجب أن يقتصر على الأمن والقضاء والإشراف العام، وليس ممارسة النشاط الاقتصادي بشكل مباشر.
إذ يطرح المستشار الأول لوزير الاقتصاد والصناعة مقترحًا جريئًا يتمثل في انسحاب الدولة الكامل من النشاط الاقتصادي، مشبّهًا استمرار الحكومة في إدارة القطاع العام بمحاولة "إحياء العظام وهي رميم". وأشار في منشور عبر "فيسبوك" إلى أن العقود الماضية شهدت إهدارًا للموارد الوطنية وميزانيات الدولة نتيجة لإدارة مركزية خانقة، واعتماد على الولاء لا الكفاءة، وتغلغل الفساد، ما جعل من مؤسسات القطاع العام عبئًا لا محركًا للنمو.
أرقام صادمة وخسائر مستمرة
وفق تقديرات "ديروان"، فإن خسائر القطاع العام منذ عام 2011 تجاوزت 30 مليار دولار، نتيجة التدمير المباشر وتوقف الإنتاج. وبدلاً من أن تكون هذه المؤسسات دعامة للدولة، أصبحت "خزّانًا للبطالة المقنّعة" ورواتب متدنية لا تُنتج ولا تُغني، تساهم فقط في استنزاف الخزينة العامة.
وفي مقارنة بين القطاعين العام والخاص، شدد "ديروان" على أن القطاع الخاص يصحح أخطاءه بسرعة نتيجة ضغط السوق، بينما يبقى القطاع العام يرزح تحت الخسائر دون مساءلة حقيقية أو إصلاح فعلي.
خصخصة كاملة: حل أم مخاطرة؟
الدعوة التي أطلقها "ديروان" لا تقف عند إصلاح القطاع العام، بل تتجاوزه إلى بيع القطاع العام بالكامل، وبأسرع وقت ممكن، للاستفادة القصوى من قيمته السوقية قبل أن تنهار مؤسساته كليًا. ويرى أن الدولة يجب أن تكتفي بوظائفها السيادية كحفظ الأمن والقانون، وأن تترك النشاط الاقتصادي للمواطنين والمستثمرين الأحرار، على أن يكون دور الحكومة بمثابة "حَكَم" لا "لاعب".
وفي حديثه، أشار إلى تجارب دولية عديدة اعتبرت الخصخصة وسيلة فعالة لمحاربة الفساد، وإنعاش الاقتصاد، وتحقيق الشفافية.
وبالفعل، يمكن الاستشهاد بتجارب مثل تشيلي، وجورجيا، ورومانيا، التي شهدت تحولات اقتصادية جذرية بعد اعتمادها سياسة الخصخصة الواسعة. لكن الخصخصة ليست وصفة سحرية، فبلدان مثل روسيا في تسعينيات القرن الماضي شهدت آثارًا كارثية نتيجة خصخصة عشوائية أدت إلى احتكار الثروة وتضخم نفوذ القلة القريبة من السلطة، ما زاد من الفقر والتفاوت الاجتماعي.
الخصخصة في السياق السوري: تحديات واقعية
على الرغم من طرح الخصخصة كحل محتمل، فإن الواقع السوري يفرض معوّقات كبيرة، منها:
- غياب بيئة قانونية واستثمارية مستقرة.
- ضعف مؤسسات الدولة الرقابية والتنظيمية.
- تآكل الثقة بين المواطنين والدولة بعد سنوات من الحرب والفساد.
وبحسب تقرير للبنك الدولي صدر في 2024، فإن "إعادة بناء الثقة والمؤسسات وسيادة القانون" هو شرط أساسي لأي إصلاح اقتصادي حقيقي في سوريا، بما في ذلك الخصخصة.
الوضع في سوريا… اختيار المر بدل الأمر
سنوات الحرب الطويلة تركت الاقتصاد السوري في حالة يرثى لها، حيث دُمّرت البنية التحتية، وتعطّلت سلاسل الإنتاج، وتفاقمت البطالة والفقر. وفقًا لتقارير حكومية سابقة، فإن أكثر من 70% من شركات القطاع العام في سوريا تتكبّد خسائر مزمنة، رغم احتكار بعضها لخدمات استراتيجية مثل الكهرباء والدفاع. هذا الواقع، إضافة إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية بسبب عدم الاستقرار، أدى إلى تباطؤ شديد في النمو الاقتصادي وتعطيل عملية خلق فرص العمل.
وقد أعادت الإدارة السورية الجديدة الجدل حول الخصخصة إلى الواجهة بعد سقوط النظام السابق في كانون الأول/ديسمبر الماضي. ففي مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز، كشف وزير الخارجية السوري "أسعد الشيباني" أن الحكومة تعتزم اتخاذ "خطوات جذرية" تشمل خصخصة الموانئ والمصانع الحكومية، وتقديم تسهيلات للمستثمرين الأجانب.
كما صرّح وزير الاقتصاد السابق باسل عبد الحنان أن الحكومة ستقوم بخصخصة 107 شركة صناعية مملوكة للدولة، معظمها غير رابحة، مع الإبقاء على الأصول "الاستراتيجية" مثل الطاقة والنقل تحت إشراف الدولة. وهذه الخطوة تعتبر تحوّلًا كبيرًا في السياسة الاقتصادية السورية، التي اعتمدت لعقود على نموذج مركزي وتدخل حكومي واسع.
وجهة نظر ناقدة: القطاع العام "ثروة قومية"
رغم هذا التوجه الجديد، فإن الخصخصة لا تحظى بإجماع داخلي، بل وُوجهت بانتقادات حتى من داخل الطبقة الحاكمة الجديدة. فقد نُسب إلى حسين الشرع، والد الرئيس الحالي أحمد الشرع، منشور اعتبر فيه فكرة الخصخصة "خطأ كبيرًا"، مؤكداً أن القطاع العام بُني على مدى عقود، ويجب الحفاظ عليه كثروة وطنية وملك للشعب.
وفي ضوء هذه المعطيات، تبدو الخصخصة في سوريا خيارًا محفوفًا بالتحديات. فهي قد تمثّل فرصة للخروج من الأزمة الاقتصادية وإعادة هيكلة القطاع العام، لكنها، في غياب الضمانات الكافية، قد تفضي إلى نتائج عكسية تزيد من الاحتكار، وتفاقم الفقر، وتُعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
الرهان اليوم ليس فقط على من يملك الشركات، بل على كيفية إدارتها، وبأي إطار قانوني ورقابي، وما إذا كان ذلك سيخدم المصلحة العامة أم يعيد إنتاج الفساد بصيغ جديدة.
لذلك، بين الرغبة في التحديث والخروج من الأزمة، وبين الخوف من تكرار تجارب خصخصة فاشلة، تبقى الخصخصة في سوريا ملفًا معقدًا يحتاج إلى رؤية واضحة، ومؤسسات قوية، وحوار مجتمعي شامل. فبيع القطاع العام دون إصلاح بيئة الحوكمة والمساءلة قد يفتح الباب لمزيد من التدهور بدلًا من الإنقاذ.